الحوار الوطني المصري- مناورة سياسية أم فرصة للتغيير؟

المؤلف: د. خليل العناني08.15.2025
الحوار الوطني المصري- مناورة سياسية أم فرصة للتغيير؟

في نداء مفاجئ أواخر شهر أبريل/نيسان الماضي، أطلق الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي دعوة إلى حوار وطني جامع، يستوعب "كافة القوى السياسية بلا استثناء أو تمييز". هذه الدعوة أثارت، وما زالت تثير، عاصفة من ردود الأفعال المتباينة على وسائل التواصل الاجتماعي وفي الأوساط السياسية، إذ تمثل هذه المبادرة الأولى من نوعها منذ عام 2013. وبينما استقبلت بعض القوى والشخصيات السياسية هذه الدعوة بترحيب حذر، بقي آخرون متشككين في قدرتها على إحداث تغيير جوهري أو تحقيق انفراجة حقيقية في الأزمة السياسية التي تعصف بمصر منذ عام 2013. وتتولد عن هذه الدعوة تساؤلات جوهرية حول دوافعها الحقيقية وتوقيتها، وما إذا كانت خطوة جادة نحو الإصلاح أم مجرد تكتيك سياسي يهدف إلى تخفيف الضغوط الاقتصادية والاجتماعية المتزايدة التي تثقل كاهل النظام المصري.

منذ الانتخابات الرئاسية التي جرت في عام 2014، انتهج النظام المصري سياسة تقييدية صارمة تجاه المعارضة السياسية، وقام بتجريم أي صوت ينتقد أو يعارض سياساته. ويرى النظام أن المعارضة السياسية تشكل تهديداً للأمن القومي المصري وتقوض قدرة الدولة على الحكم الرشيد، وبالتالي، يعتبر إخضاعها للسيطرة واجبًا وطنيًا. وعلى مدى السنوات الثماني الماضية، اضطلعت المؤسسة الأمنية والاستخباراتية بدور محوري في إدارة المشهد السياسي والسيطرة عليه بشكل كامل، وذلك من خلال هندسة برلمان مطواع بالكامل، والإشراف الدقيق على وسائل الإعلام، العامة والخاصة، وتوجيهها بشكل ممنهج، والتدخل المباشر في شؤون الأحزاب السياسية.

علاوة على ذلك، يتبنى النظام قناعة راسخة بأن سياسته القمعية تمثل ضرورة حتمية للحفاظ على الاستقرار والأمن في مصر، حتى لو اقتضى ذلك زج الآلاف في السجون. وعلى مدار السنوات الثماني الماضية، تم تهميش المعارضة وقادتها، بمن فيهم أولئك الذين أيدوا إطاحة الجيش بالرئيس السابق محمد مرسي في عام 2013. وفي الوقت نفسه، يخشى النظام من أن أي بوادر انفتاح سياسي أو فسحة من حرية التعبير والإعلام، حتى لو كانت محدودة، يمكن أن تقوض أركان حكمه، كما حدث في عام 2011. لذلك، فإن الدعوة إلى الحوار بعد سنوات طويلة من الإغلاق والقمع السياسي تثير العديد من الشكوك حول أهدافها الحقيقية وما إذا كانت خطوة تكتيكية أم مبادرة جادة نحو الإصلاح.

يمكن تفسير الدعوة إلى هذا الحوار الوطني من خلال مجموعة من العوامل، في مقدمتها الأزمات الاقتصادية والاجتماعية الطاحنة التي يواجهها النظام، خاصة في ظل الحرب الروسية المستمرة على أوكرانيا، والتي لها تداعيات وخيمة على الاقتصاد المصري. فمنذ بداية هذا العام، عانت مصر من مشاكل اقتصادية جمة، تراوحت بين ارتفاع معدلات التضخم بشكل غير مسبوق، والزيادة المهولة في حجم الدين الداخلي والخارجي، وانخفاض الاستثمارات المباشرة الأجنبية، وهروب مليارات الدولارات من الأموال الساخنة عقب تخفيض قيمة الجنيه المصري في شهر مارس/آذار الماضي. كما أدت الحرب في أوكرانيا إلى تفاقم الأوضاع الاقتصادية في مصر، التي تعد أحد المستوردين الرئيسيين للقمح وزيت الطعام من روسيا وأوكرانيا، وهو ما دفع إلى إطلاق الدعوة لحوار سياسي بهدف تخفيف حدة الاستياء الاجتماعي المتصاعد وتجنب أي اضطرابات اجتماعية أو سياسية قد تنجم عن هذه المشاكل.

ثانيًا، يرزح النظام تحت وطأة ضغوط دولية متزايدة بسبب انتهاكاته الصارخة لحقوق الإنسان. فعلى سبيل المثال، دعت وزارة الخارجية الأميركية مؤخرًا إلى "إجراء تحقيق شفاف وموثوق به ودون تأخير" في الوفاة الغامضة للباحث الاقتصادي أيمن هدهود، الذي توفي أثناء احتجازه في شهر مارس/آذار الماضي. إضافة إلى ذلك، من المتوقع أن تستضيف مصر مؤتمر المناخ في أواخر هذا العام، ويأمل النظام من خلال الدعوة إلى الحوار في تخفيف الضغوط عليه فيما يتعلق بملف حقوق الإنسان الحساس.

ثالثًا، تسعى مصر جاهدة للحصول على حزمة دعم مالي إضافية من صندوق النقد الدولي، والمفاوضات جارية حاليًا بشأن قرض جديد بين الطرفين. لذلك، فإن فتح المجال السياسي وإشراك بعض الشخصيات المعارضة في الحياة السياسية يمكن أن يُنظر إليه من قبل المانحين الدوليين على أنه علامة إيجابية على التغيير السياسي، وهو ما قد يعزز موقف الحكومة المصرية في المفاوضات. وتسهم تلك العوامل المتشابكة في رسم صورة أكثر وضوحاً للدوافع الكامنة وراء هذه الدعوة.

وأخيرًا، تتردد تكهنات قوية حول وجود خطط لإجراء تعديلات دستورية جديدة تسمح للرئيس بالبقاء في السلطة مدى الحياة. فبموجب الدستور الحالي، لا يمكن له البقاء في منصبه لأكثر من فترتين رئاسيتين، تبلغ مدة كل منهما 6 سنوات. لذلك، يأمل النظام من خلال الحوار الوطني أن يتمكن من تمرير هذه التعديلات الدستورية واستخدام المعارضة لدعمها وإضفاء الشرعية عليها.

من المؤكد أن هذه الدعوة لا يمكن أخذها على محمل الجد بشكل كامل، ولا يُتوقع أن تفضي إلى تحقيق انفراجة سياسية حقيقية تنهي الأزمة السياسية المتفاقمة منذ عام 2013، خاصة في ظل وجود آلاف المعتقلين السياسيين الذين لا يزالون يقبعون داخل السجون، فضلاً عن استمرار الاعتقالات التعسفية لكل من يعارض النظام وسياساته، كما حدث مؤخرًا مع توجيه الاتهام للباحث والناشط أحمد سمير سنطاوي والحكم عليه بالسجن لمدة 3 سنوات، وإعادة اعتقال الناشطة الشابة آية كمال الدين بسبب منشور لها على منصة "الفيسبوك" ينتقد الأوضاع المتردية في مصر.

أما الأمر الذي يثير الاشمئزاز حقًا فهو موقف بعض القوى والشخصيات والرموز السياسية من الحوار الوطني. فمن الواضح أن كل منهم يحاول استغلال هذه الفرصة لتحقيق مصالحه الشخصية والأيديولوجية بطريقة انتهازية فجة. فقد سارعت هذه القوى والشخصيات إلى تلبية دعوة السلطة للحوار، دون أن يكون لديها أي ضمانات بنجاح الحوار، ودون القدرة على فرض أجندة واضحة ومحددة لهذا الحوار الذي تديره بالكامل أجهزة الأمن والمخابرات. وهذه القوى والشخصيات نفسها التي عانت من التهميش والإقصاء، وأحيانًا السجن والاعتقال، على أيدي هذه الأجهزة على مدار السنوات الثماني الماضية، تهرول الآن للحديث مع ممثليها وكأن شيئًا لم يحدث. فهل يوجد بعد هذا البؤس من بؤس؟!

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة